الفن .. لحظة إستـفزاز طويلة
يقول الفنان سيزان: (هناك دقيقة معينة تعبر عالمنا هذا .. أريد أن أرسمها على حقيقتها كما هي، وأن أنسى خلال ذلك أي شيء آخر في الوجود)، وتلك الدقيقة وذلك النسيان قلصه الفنان ماتيس في عبارته (وظيفة الفنان ليست أن يرسم ما يراه ، ولكن أن يعبر عن الدهشة التي يسببها ما يراه)، أما الفنان فان جوخ فأرادها لحظة صادقة وقال: (أريد أن أكون صادقا مع نفسي وأن أعبر عن أشياء حقيقية بصورة تماثل خشونة حياتي وجفافها). وفي كل ذلك نجد أن الاستفزاز والدهشة هي المسار الذي يجمع الفنان بعمله، ومنها يخرج بأعمال وإبداعات توصف بالإبداعية، التي نجدها تلمس جانبا من التميز في عمله يختلف به عن رفقائه من الفنانين. لكن تلك الدقيقة أو لحظة الدهشة والصدق .. أظنها قد خالطت أيضاً اشتغال الفنانين لإنهاء العمل في ذات الفترة القصيرة بالضرورة، دون الاكتراث أن المعايشة مهما استمر زمانها فهي تكون امتدادا لتكوين اللحظة وليس إلغاء لها.
غير أن العمل الفني بجانبيه الوجداني والعملي، فأظنه مشروعا تبدأ بذرته في العقل وتنمو في أماكن الفراغ ومساحة الحقل الذي يؤسسه الفنان بجدية عملية، ويكون مقبلاً على التفكير والتبصر بنفس القدر الذي يعمل فيه مع عمله، وقد استزاد الفنان (ليوناردو دافنشي) ليحث على التفكير وقال: " تعمل العبقريات قليلاً وتفكر كثيراً".
وبالرغم من أنه يتراءى منذ القراءة الأولى لـ "اللحظة أو الدقيقة " أن السرعة هي ما تصاحب العمل والتفكير فيهما، إلا أن الإبداع في الفن لا يرتبط بالسرعة كبيئة صالحة لوجوده، كون أن السرعة لا يتولد معها تفكير بالقدر الذي يتكاثر ووجودها الكم في الأعمال، أما الإبداع فإنه يرتبط بدهشة الفنان ومقدرته على التفاعل والتعبير عن كينونة الشيء باستنطاق تعبيره في عمله دون الاكتراث بالزمن عند العمل.
والشعور بالدهشة عند الفنان، معايش له منذ بدايته الأولى، بدءا من نظرته للأشياء بمنظور وجمالية مختلفة، ووصولاً لصنع عالم مختلف، وحتى يستمر هذا الشعور لدى الفنان الذي يستيقظ بالاستفزاز دائماً، عليه أن يعشق هذا الشعور الذي في داخله حين ينظر للأشياء أو يعبر عنها في عمله، وبالتالي يترجم هذا العشق أيضاً ليكون حميم فكره وقلبه.
واللحظة في الفكرة الفنية .. هي ليست نتاج الفترة الزمنية التي وُجدت فيها، بل هي تراكمات قد لا يشعر بها الفنان في حياته اليومية، وهي ليست وليدة صدفة كي تنتج عملا جيدا كما يصفها الفنان (فان جوخ) بقوله : " أن العمل الجدير بالتقدير ليس وليد الصدفة أو الاتفاق، وإنما هو ثمرة لقصد حقيقي"، وهذه اللحظة هي التي على الفنان أن يعيشها ويستثمر ما حوله من موجودات حياتية وأفكار شخصية تكون دعامات تؤسس لعمل أسس في لحظة وخلدته الأيام مع ما خلدت.
ولعل الرهبة والقلق من البطء المحمود في عمل الفنان، الذي يُستبدل بالسرعة، يكون مرده إلى الخوف من القلة في الكم العددي، أو حجم العمل الذي لا يتعدى كونه مساحة واسعة وحسب إذا خلى من فكرة يحتويها جهد واضح، الذي يعتقد بعض الفنانين أيضاً أن ذلك تقييم جيد لمستواهم.
وبالرغم من أن أمر الكم العددي في الأعمال الفنية ليس من السلبية الظاهرة من الوهلة الأولى، كونه يثمر في المقابل تجريبا يعطي الحيوية ويعلم الخروج من المأزق والمهارات الفنية، إلا أن الأمر سيختلف مرده الإيجابي هذا إلى مصير سلبي يتمثل في العمل على إخراج التجربة (الإسكتش، أو التخطيط الأولي) على أنه عمل فني مكتمل وليس مساحة للتجربة الرئيسية للعمل الفني الذي يلزمه التجريب والتدقيق والمثابرة والقراءة والمعايشة بل إن هذا التجريب التشكيلي ليس بالضرورة أن يكون ذا ممارسة يدوية، فإن المعايشة الخارجية والداخلية لأعمال الفنانين، تعطي نوعاً من التجريب غير المباشر لبناء هوية انفرادية للفنان.
ولأن بعض الفنانين تخلو مراسمهم من التجارب الأولية قبل البدء في العمل الرئيسي، فإن هذا الأمر هو ما ينقلب على الفنان في إبداعه في عمله، وبتكرار نفسه دون إدراكه لمثل هذا المآل، وذلك لافتقاد العمل الفني من التأسيس الفكري والعملي، وبإهمال لأسس كثيرة تفقدها الأعمال في هذه الحالة كالذاتية والتفرد والاشتغال المُركز وديمومة العمل. ولذلك نجد أن الفنان يتعلم التقنية والصنعة حين يمارس السرعة في الفن، لكنه يخلق ذاتيته تقول: ها أنا ذا، حين ينسى هذه الذات في العمل بسكناه فيها، فيكون أكثر خوفاً أن يجدها تخبره أنها اكتملت في عمله .. أو جاءت ذات مرة توقظه من حلمه!!.
الكاتب يوسف البادي
سلطنة عمان
منتدى قطر الفن
مندى قطر الفن
لن نتوقف بدعمكم بكل ما هو جديد من وقت الى وقت.